في الإنسان فطرةٌ لا تقبل التحوير ولا التغيير ، وهي التطلع إلى من يعجب بسلوكه ويتأسّى به ، يمنح ذلك أول ما يمنحه أمَّه وأباه ، ثم كلّما كبر ونما ، وتعرف على الناس من حوله بحثض بشكلٍ فطري ، وبغير شعورٍ منه عمن يعجب به أكثر ، ويجد فيه أسوة له وقدوة تُشبع نهمه ، وتبني كيانه ، وتحقّق له تطلعاته ..
ومن رحمة الله بالإنسان أن حقّق له هذه النهمة الفطرية والحاجة الضرورية بما جعل له في سيرة الأنبياء والرسل وحياتهم عليهم الصلاة والسلام من أسوةٍ حسنة ، وبخاصّةٍ نبيه محمداً سيّد الخلق ، وخاتم النبياء والرسل ، المنزه عن اتباع الهوى : { وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى } النجم .
ويقول تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } الأحزاب .
فهل عرفت الإنسانية فتىً أطهر سيرةً ، وأزكى سريرةً ، وأشرف نسباً ، وأكرم حسباً ، وأعظم خلقاً من محمد بن عبد الله .
لقد لقبته قريش الأمين وأجمع على ذلك عقلاؤها ، ولو عرفت أحد زعمائها بذلك لما ضنت عليه بتلك الصفة ، واختصَّت بها محمداً من دونه .
ووصفته زوجته العاقلة الحكيمة ، خديجة رضي الله عنها ، وقد عاشت معه خمس عشرة سنة قبل النبوة ، خبرت خلالها شخصيَّته وأخلاقه ، فقالت له أول عهده برسالة السماء وقد داخله الخوف مما جرى معه : (( كلا ! والله لا يخزيك الله أبداً ؛ إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق )) .
وكان يعفو عمن ظلمه ، ويصل من قطعه ، ويعطي من حرمه ، ولم كن يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها ، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله ، فإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يقم لغضبه شيء .
ولقد أوذي في الله تعالى أشدّ الإيذاء ، فلم يَدْعُ على قومه ، ولم يتطلع إلى الانتقام منهم ، وإنما كان يقول : ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) .
وعندما ناله منهم أشد الأذى عرض عليه عذابهم وهلاكهم ، فقال : ( لا بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ) . إنه أعظم إنسانٍ لبس جلباب العبوديّة لله تعالى ، ونـَعم بأكرم مراتبها ، قد شغف قلبه الشريف بعبادة ربه ، والاستغراق في مناجاته وذكره ، فكان يجتهد في التعبد عبادة خشوع وخضوعٍ ، وخشيةٍ ودموع ، وإخلاصٍ في التوجه إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته ، قام من الليل حتى تفطّرت قدماه وعندما قيل له : ( أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟!! قال : ( أفلا أكون عبداً شكوراً ، ولم يمنعه اجتهاده في العبادة من أن يكون مبادراً إلى كلِّ عملٍ في حينه ، بدون تأخير يفقد العمل قيمته ، أو تعجَّل بالعمل قبل وقته .
لقد جمع الرسول جمعاً فريداً في التاريخ بين أعلى درجات النّقاء الروحي بالاجتهاد في عبادة الله تعالى ، وأعلى درجات العمل والنشاط ، دعوةٌ إلى الله تعالى ، وتربيةٌ لأمته ، وجهاداً في سبيل الله ، وبناءً لدولة الإسلام وتسييراً لشئونها وتنظيماً .
ومن أبرز خصاله الشخصية النادرة بين العظماء ذوي السلطان : مزيد التواضع والحياء والإيثار ، وكان من تواضعه بعده عن كل صور الأبهة ومظاهر التعاظم ، التي يتميز بها في العادة الحكّام والؤساء ن ويحرصون عليها أشدّ الحرص ، فكان يتساوى مع اتباعه في المأكل والملبس والمظهر والمجلس ، وما يقوم به من الأعمال البدنية ، ويكره أن يتميّز عنهم في شيء .
وكان من إيثاره أنه وزهده أنه قد يأتيه ما يملأ الوادي م نالأموال والغنائم والهدايا فيوزِّعه كله من فوره ، ويبيت ليس عنده منه شيء .
ومن خصاله الشريفة النادرة : إذعانه للحق على نفسه ، حتّى مع من يخالفه في الدين ويعلن له العداوة والخصومة ، ويدخل في هذه الخصلة الكريمة: صبره الجميل ، واحتماله للأذى وسعة صدره على إساءة الجهَّال ، وجفوة الأعراب .
ومن أهم ما يميّز سيرته المثالية بين سائر العظماء : التزامه الشديد بتطبيق الأخلاق التي يدعو إليها ، التزاماً لا خروج عنه ولا استثناء ، حتّى مع أعدائه ، فلا تناقض ولا اختلاف بين الدعوة والسلوك ، فلم ينقض عهداً مع عدو ، ولم يحاول غدراً بخصم ، مهما كان يائساً منه ويخشى غدره ، وكان قدوةً للناس في كل ما يأمرهم به ، وأبعد الناس في هديه وسيرته عن كل ما نهى الناس عنه ، ولن يستطيع مقال عجلٍ أن يلمّ بشيء من جوانب العظمة في شخصية رسول الله وأخلاقه .
وبعد ، فإن حاجة الناشئ إلى مثلٍ أعلى يتعلق به قلبه ، ويطمح إليه نظره ، حاجةٍ أكيدة ماسة ، وإنم الصورة الوضيئة ، التي أراد الله تعالى لهذه الأمة أن تتعامل بها مع نبيها هي صورة الأسوة ، والقدوة المثلى ، كما قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } الأحزاب .
فما أحسن أن يربط الآباء والمربون الأبناء والناشئين بشخصية النبي وسيرته العطرة ، حبّاً واتباعاً ، وتدارساً واهتماماً ، لتمتلأ قلوبهم تعظيماً لشريعته ، وحباً لسنّضته ، وتبتعد بقدر ذلك عن الافتنان بما سواها من المناهج والاتجاهات ، وإنا لنرجو ذلك ونتمنّاه ، والحمد لله رب العالمين .